عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مهند فوده - مصر

مات جنينا يا ليلى


مهند فودهما كان لي يا ليلى خياراً في حبك، وأنــا الذي لم أؤمن بالحب قبلك بل وكنت استخف دوماً بالمحبين.

كان الحب بالنسبــة لي نوعاً من الهراء، فكيف لإنسان ولد حراً أن يبيع نفسه عبداً لما يسمى "الحب"؟

كنت أسمع دوماً عن عذاب المحبين وآلامهم، عن شقائهم و اكتئابهم، وما كان لي فضول في تجربة ألم الحب، فيكفيني ما أنــا فيه.

وكأن الحب سمعني أسبّه، وكأنه سمعني أسخر من مُريديــه، وقد غضب و استحلف لي من وصفي لهم بالعبيد، فأراد أن يشتريني عبداً و أنــا الذي عشت عمري قبله حراً.

أراد أن يتحدى نفسه في مباراة كنتِ أنتِ يا ليلى فيها خصمي ورهان الفوز كان على قلبي. وقد كان وفزتِ به وبدلتِ لدي كل المبادئ والمفاهيم. ورغم هذا أجدني اليوم قد خسرت كل شيء حتى ما كنتِ تعدينه فوزاً مبيناً وجعل مني بشرا من جديد.

قبله، كنت أظن أنني سأكون أقوى في مقاومتـه، وبعد أن وقعت في أسره، ظننتني سأكون أكثر شراسة كي لا يفارقني وأفارقه، فما أجمل قيد الحب! وما أروع أن يكون الحبيب أسيراً لهوى الحبيب!

ورغم أن الحب لم يباغتني كما عادته حينما ينفذ لقلوب المحبين، إلا أنني لم أجهز عتادي كما يجب وينبغي، وأعد العدة لحرب غافلتني على حين غُرة، حرب لم أدرِ لها سبباً وإلى الآن لا أدري لما اندلعت، حرب لم أتوقع أن يكون أقرب الناس لي فيها هم خصومي والحب هو قضيتي.

لم يدر بخلدي يوماً أن الحبيب بحاجة لحمل سيفه متى نوى الإعلان عن حبه، وأن يتحسس جيبه بين الحينة والأخرى ليتأكد أنه يحمل ما يكفي من طلقات البارود ليدافع عن حبه متى استلزم الأمر وقرر أن يمشي بين الناس حاملاً بين ضلوعه قلباً ينبض.

لا يهم في تلك الحرب، إن اختلط عطر الحب برائحة البارود، ولا إن تلطخ ثوب الزفاف الأبيض بدماء من أحبوك. هكذا كان يحارب العشاق في مدينتي، هكذا علمتنا الجدات، وما زالت تحكي شواهد القبور.

ولكنني يا ليلى لم استطع أن أحذو حذوهم، لم أستطع أن أشهر سيفي في وجوههم، أو أمد أصابعي لأي من رصاصات جيبي، وإما قاتل لهم وإما على يديهم مقتول.

كيف لي أن اختار، بين كوني حبيباً لكِ مُجرماً في حقهم، وخائنا للحب باراً بهم. وبدورهم لم يدعو لي فرصة للتردد والاختيار، فهم في قتل الحُب أساتذة وخبراء. قرروا عني واتخذوا القرار.

وقد كان.

مات جنينا يا ليلاه، أجهض كما يجهض في تلك البلد كل حلم، وقتل قبل أن تتكون بين ضلوعنا بذرة حب.

لم يكتب لبذرة حبنا الحياة لأنها لا تنبت بداخلنا فقط، تنبت وفروعها تتشابك بين أناس نحبهم ونحيا معهم، وليس كل ما ينبت بداخلنا يا ليلى يروق لهم.

اقتلعوها من صدورنا قبل أن تنبت لها جذور كما يدعون. قبل ان تنفخ فيها الروح كما يبررون.

ليس لقتل الحب يا ليلى أي مبرر أو دافع. هو جريمة نكراء كما علمتنـــا كل الشرائع. كما روت لنا حكايا التراث وليتنا بعِبر حكايا أجدادنا نعتبر.

يظنون أنه لن يؤلمنا استئصاله منا متى كان ذلك مبكراً. وان النقاهة بعد نزعه منا ستكون شيئاً يسيراً هيناً.

يظنون أن أثر الحب سيُمحىَ من ذاكرتنا متى نزعوه من أحشائنا، وأن العيش دون قلب أمر مألوف كما سبق وتعايشوا بدونه منذ عقود قبلنا.

يؤمنون بأن زمن قيس قد ولى، وأن لا مكان للحب في هذا الزمان بيننا.

أما كان لنا يا ليلى أن نكون معاً بعيدا عن بلاد يوأد فيها الحب جنيناً كما توأد البنات؟

أما كان لنا أن نحيا بعيداً عن أناس برعوا في بناء مقابر للحب بدلاً من الشروع في بناء مساكن تضمهم متاحبين تحت سقفه وبين جدرانه؟

في بلاد عز للحب فيها أن يحيا، ما كنت أنشدها يوماً موطن لحبي لكِ يا ليلى. ما كنت أبغاها أرضا لي ولكِ، ولأولادي منكِ يرثوا فيها القهر من سكانها والكُرهِ.

سيأتي يوماً يا ليلى تتوقف فيه الجدات عن سرد حكايا الحب. وستتعاقب أجيال ستحيا وتموت دون أن تدرك معنى للحب. ستندثر ذكراهم برحيلهم عن الدنيا، لأنه لم يكن في سيرتهم شيء يذكره ويخلده الحب.

D 24 آب (أغسطس) 2013     A مهند فوده     C 15 تعليقات

8 مشاركة منتدى

  • رائع هذا النص،وكعادتك مبدع في سرد التفاصيل والموضوعات المميزة، سلمت يديك حقاً


  • النص اكثر من رائع والكلمات معبره دمت مبدعا يامهند


  • مهند فودة – مصر

    يمكنك يا صديقي أن تتمرد على كل شيء ما خلا الحب..؟ الحب غاية الدنيا ومن أهم أسبابها، وحوله تتمحور كل قضايا الكون.

    ليتك نأيت بنفسك عن المقارنة بين الحب والسيف، ولو أن عنترة طوَّع سيفه ذات مرَّة للغاية نفسها.
    (فوَضْعُ "الحبِّ" في موضعِ السيف بالعلى).. لا يصح في رأي المتنبي.

    ما قلته عن ليلى..؟ يشكل فيضاً من المشاعر النبيلة.. ولكن أستخدام مفردة مبدع أو رائع ومميز لا ينبغي أن تأتي إلا في المكان المناسب.. حينما نستمع لأم كلثوم مثلاً أو نقرأ قصيدة جديدة وجميلة لشوقي أو حافظ الشيرازي.. وربما عندما نستمع إلى تميم البرغوتي.

    وليس من اللياقة طبعاً أن نملي قناعتنا على الآخرين.


    • تحياتي استاذ ابراهيم لمرورك وتعليقك الكريم ..العلاقة بين الحب والسيف ليست محض خيال فهي واقع في عالمنا وبخاصة العربي ..وليس كل حبيب كعنترة يحكم عقله و لا يلوث حبه بالدماء ..فالتراث مملوء بجرائم قتل وربما حروب اشعلها الحب قد تنجح في وأد الحب وقد لا تنجح ..هذا ماقصدته في نصي ..
      بخصوص الاطراء الذي تقصده في التعليقات على مااكتبه.. فلا املك تقييده فلكل قارئ مطلق الحرية في التعبير عن رايه بداية من الاطراء المبالغ وحتى النقد الحاد..ولكن ما املكه الا يحيطني الاطراء الزائد بهالة من الغرور ..والا يحطمني النقد الحاد فيكسر قلمي ...شكرا لك وتحياتي لك ولما تكتبه

  • يقولون ليلى في العراقِ مريضة ياليتني كنت الطبيبُ المداويا
    ما أشبه ليلاك في مصر بليلى العامرية في العراق .
    لقد بداوا بوأد الحب في العراق ،وازدهرت تجارتهم وكان نتاجها مقابراً واهوالا وجرت انهار من دماء زكية.
    واصلوا مسيرهم حتى حلوا في ارض الكنانة واغتالوا ليلاكم كما إغتالوا ليلانا ووأدوا دنياكم كما وأدوا دُنيانا.
    ياسيدي لن تسكت الجدات عن سردها للحكايات ،فهن جدّات لانهن يُعمِرن طويلاً وكل واحدة منهن كانت في شبابها ليلى لقيسٍ من الناس
    ثق ياسيدي إن الحب يبقى مادام في القلب نبض وقلوبنا حية نابضة
    رغم ان هنالك من يود أن يُسكت وجيبها .
    ما اجمل سردك للحكاية فإن لك امكانية مميزة تجذب القرّاء لقراءة ماتكتبه .
    بالتوفيق
    هدى الكناني من العراق


  • أخ مهند,ماذا نقصد بقولك (جنين) , ان كان الحب فهو حسب ما رويت قد تجاوز مرحلة الجنينية, و ان كنت تقصد الارتباط فهو هنا لم يبلغ مرحلة الكينونة, و ان كان مشروع الارتباط فهو مجرد حلم لم يكتب له أن يكون أيضا. ثم لم تقول (مات الجنين), هل تراها موتة طبيعية, الأصح أن تقول(قتل) .
    مسكينة ليلى أصيبت بصدمتين:موت الجنين , وخذلانك لها...


    • (المقصود من الجنين) تركت للقارئ ترجمته كيفما يري..وهو يصلح للثلاث حالات التي قمتي بذكرها...فالذي يمر بحالة حب لا يعترف ابدا انه تجاوز المرحلة الجنينية ..في ظنه انه لم يصل لذروة الحب..ويستمر في الاقدام فيه على امل ان القادم احلى وأعمق..وان كان مشروع ارتباط فالترتيبات له والاعداد تعد جنينا يولد لحظة االنجاح في الارتباط الفعلي..وعن موت الجتين فالاصح كما تقولين وصف موته بالقتل ..ولكن اكدت الجملة التالية "اجهض كما يجهض في البلد كل حلم"...شكرا لتعليقك ومرورك ..و قبل كل ذلك استفساراتك

  • رائعة جدا مهندس مهند ورقيقة في لغتها ذكرتني بقصة قيس بن الملوح وأشعاره التي أبدعها من قصة عشقه لليلى لضياع حبهم بأيدي من يشاركونك الاسم والدم ولكنهم أول من يتصدوا للعشق للآسباب لا يراها أحد منطقية سواهم ويشقون الأبطال طوال حياتهم بها ويتركونهم معلقين لا هم بأحياء ولا أموات


  • وجد الحب لنتحدى به العالم لا لنتحدى به من نحب ..

    وجد ليبني ويحمل ويسند لا ليبشع ويدمر ويهدم..

    لك كل الشكر


    • هكذا خلق الحب، كما تقولين ليعمر ويبنى ويلين القلوب القاسية، ولكن هناك اعداء للحب لا يؤمنون به وربما لا يفهمونه، يحاربون من يحب، ويضطروا حينئذ للاستسلام والتنازل عن حبهم او خوض حروب من اجله، ليتحول الحب لساحة معركة يغيب عنها ادنى قيم الحب وكل ما يمت لصله به..شكرا لمرورك..خالص التحية لك

  • الأستاذ مهند
    المشكلة حين ينحصر مفهوم الحب عند بعض الناس، يصبح كل ما يتعلق به ممنوع ومرفوض.
    مازال هناك من يحب بيننا، سينشأ جيل بعدنا يعرف الحب بمفهومه الواسع إن علمناه.

    شكرا على النص الجميل
    مع التحية


في العدد نفسه

كلمة العدد 87: عن سمات الجنرالات

الزمن في سرد سهيل إدريس

أبو نواس والتغزل بالمذكر

بلاغتنا الجميلة: من ينقذها؟

النار في حدث أبو هريرة...